منكم السيف ومنا دمنا
محمد عثمان ابراهيم
_______________________________
كان حسين خليفة في العاشرة من عمره . ذكياً، شجاعاً ، لماحاً، وسريع الحركة والإنفعال. يبدو أكبر من سنه بكثير . في الفصل كان يؤدي واجباته الدراسية دون تأجيل، وفي فترة الظهيرة يرتق حذاءه البلاستيكي بالنار أو يحيك بعض ثيابه بإبرة أطول من أصابعه الغضة، أو يطبخ طعامه، أو يرتل مع صحبه سوراً طوال من القرآن الكريم حفظها إبان دراسته في خلاوي الشيخ علي بيتاي(رضي الله عنه). في العصر يلعب كرة القدم أو كما يسمونها (توكور) وفي المساء إما أن يلتئم بأصدقائه ليغنوا أغاني أركة صابر بكلماتها البليغة وإيقاعات موسيقاها الحماسية الجامحة وإما ذهب إلى حيث يقيم أحد الأساتذة مجلساً للأنس والإرشاد..
في يوم 10 ابريل 1999، كان حسين يتحدث بصوته الذي هو اشبه بالصراخ عن كل شيء. ما انفك الصبية يتسامرون في غرفة أحد الأساتذة فيما المعسكر كله يحتفل بالذكرى الخامسة لإعادة تأسيس مؤتمر البجا. حمل حسين خليفة بندقية كانت موضوعة بالقرب منه وشرع يشرح لأنداده –بحذق- كيف تعمل آلة الموت. وضع الماسورة تحت فكه مباشرة ثم وضع أصبعه على الزناد وقال: بعد أن يتم فك التأمين يتم الضغط هكذا... ثم انفجرت الجمجمة الصغيرة إلى أشلاء بطلقة واحدة كانت موضوعة على المساق المنفرد. هدوء تام!
جمعنا الجسد الغض في بطانية كبيرة. ولعدة أيام كنا في كل مرة نجد قطعة من بقايا اللحم ملتصقة هنا أو هناك حتى هدمنا الغرفة وبنيناها من جديد.
مساء اليوم التالي كنت مع وفد النعاة الذي ذهب إلى قرية قدماييب لإبلاغ الأهل بالنبأ الحزين. قرية قدماييب إسم يطلق مجازاً على مكان قفر به بئر للسقيا ومنازل متباعدة من القش وغرفة واحدة فقط مبنية بالآجر.
أخذنا معنا في السيارة أبناء عمومة حسين وألبسناهم ملابس جديدة أنيقة (أحدهم كان طفلاً فارساً وخدوماً إسمه علي) ثم حملنا معنا بعض المواد الغذائية من سكر ودقيق وزيت لست أذكر. حين وصلنا للقرية نزل منها علي وأبناء عمه وسارعوا بالعدو نحو البيوت القريبة. من داخل البيوت خرج أطفال آخرون عراة الصدور في استقبال هؤلاء، ومن داخل المنازل إنطلقت زغاريد نشوانة في استقبال الأطفال الذين صاروا يأتون إلى بيوتهم بالسيارات! الآن اشعر بحموضة ماسخة وصخرة ضخمة في الحلق. من بين الأطفال كان هناك صبي ذي صوت مشابه لصوت حسين خليفة وهو يصرخ في فرح شديد "هسين كييا؟" أين حسين.. أين حسين.. أين حسين؟
بعد قليل تحولت زغاريد الإستقبال النشوانة إلى بكاء بصوت عال، وليس أقسى على القلب من بكاء الهدندوة. بكاء الهدندوة يجري على إيقاعات قصيرة، مكررة، متسارعة تنزع من الشجر السكينة! للمهتمين أكثر، وعلى سبيل الإستطراد، فإن الهدندوة يبدأون البكاء على نغم أحد الحرفين الموسيقيين (فا / لا) على عكس بقية خلق الله الذين غالباً ما يبدأون بالحرف (مي).
***
بعد ذلك بسنوات كان جمع من الغرباء يحمل كل فرد منه قائمة مكتوبة بالمطالب وقائمة في الذهن غير مكتوبة بالطموحات، لكن الغالبية لم تكن قد سمعت بحسين خليفة، ولم تتشرف بالمرور على أرض قدماييب الطاهرة. الحق إن حسين خليفة ودمه كانا خارج السؤال. في كل قرية من قرى شرق السودان قصة مشابهة : في همشكوريب قضى رجلان نحبهما في الطريق إلى ساحة صلاة العيد، وفي تلكوك إثنان وفي تهلباي وكدبوت عشرات، وفي تقدرا عائلة كاملة بضربة واحدة (كان لديها طفل إسمه حمادة فقد بسبب موته رجل راشد عقله) وفي عقيق وقرورة وغيرها. الحديث هنا عن المدنيين فقط !
لم يكن أي من الغرباء، الذين كانوا يتبادلون المعارف عن أربطة العنق وكلفة التسكين في الوظائف المقبلة، يعرف كيف يمكن أن يعبر هؤلاء الفقراء احزانهم وكيف يتحقق في أرضهم الرفاه.
***
ما المناسبة الآن لهذا الحديث؟ يتلقى كاتب هذه المقالة رسائل عدداً من أبناء شرق السودان يطلبون منه الكتابة عن شئونهم. من السعودية يكتب إلي واحد: إنك إبننا الوحيد في صحافة الخرطوم فكن صوتاً لنا وممثلاً لقضايانا، وأرد عليه بانه لم يتم انتخابي من قبلكم وإنني الآن كاتب فقط. من الخرطوم يكتب إلى واحد –محرضاً- أنني لا أعدو على كوني واحد من الذين ظلت المركز يستقطبهم ليصبحوا تروساً في الآلة المضادة لأهاليهم، وأنفي التهمة عن نفسي واقول إن الصحيفة لم تكن لتهتم بأمر إلى أي المناطق في السودان أنتمي، وإن اسمي- الذي لا يعلق بالذاكرة - حرمني من التباهي باسمكم. بعد شهور من إقامتي بالصفحة السادسة في خميس (الرأي العام) أتحدث إلى رئيس تحرير هذه الصحيفة، الأستاذ كمال حسن بخيت، فيبلغني إنه عرف مؤخراً فقط أنني من هناك. روابط وجمعيات ضعيفة ومتناحرة ومنتشرة هنا وهناك وكتاب على منابر الإنترنت وأصدقاء قدامى وآخرون بأسماء مستعارة يحرضونني على أن أكون أكون كاتباً بجاويا وأنا أرفض! لماذا؟
لا أحب حساء الجماجم وهذا أمر جوهري! ثم إنك حين تقرر أن تكون كاتباً ينبغي أن تكون كاتباً فقط. إلتزام الكاتب هو أن يكتب بطريقة جيدة، هكذا تحدث غابرييل غارسيا ماركيز. ثم لماذا الكاتب وحده؟ حين تقرر أن تكون لاعب كرة قدم فلا أحد يطلب منك أن تكون ممثلاً للبجا في المنتخب القومي، هذا أولاً وهناك أسباب أخرى.
***
ما أيسر الدفاع عن الفقراء! تحتاج فقط إلى حنجرة وبعض المفردات وطاقم من أعضاء شبكة صغيرة من الرفاق ثم ترفع صوتك عالياً لتساعد حكومة الخرطوم على التقاطك أي إسكاتك. لقد تم تسكين كل المناضلين البجا في وظائف حكومية إعاشية على الدوام. هذا لم يبدأ في عهد هذه الحكومة وإن تفشى لكنه ظل دأب المركز مع الشرق الطيّع اللدن. في عهد الرئيس نميري بدأت الحكاية حتى كادت مايو أن تخلق وزارة للإرصاد الجوي لتكون نصيباً لأهل الشرق، وفي عهد الأحزاب استشرت الفكرة حتى جاء عهد الإنقاذ فصار الجرح أعمق من أن يداوى. هو فتق اتسع على الرتق فلننتظر يوم القيامة.
منذ خمس سنوات يشارك فريق كبير من أبناء البجا ضمن حكومة الإنقاذ في المركز والأقاليم، عظيم جداً. وهناك صندوق إسمه صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان يعمل فيه البعض وهو يوفر وظائف جيدة للبعض من خسروا المراهنة على المقاعدة الوزارية. لن نمضي كثيراً هنا لكن أي قراءة لأي تقرير من تقارير هذا الصندوق تكشف إن لا أحد يعرف شيئاً عن التنمية. التنمية لا تقاس بإحصائيات من هذا النوع " أقام الصندوق 31 مشروعاً في قطاع المياه، بقطاع التعليم وعشرة بقطاع الصحة في ولاية البحر الاحمر ...63 مشروعاً في قطاع التعليم ، 21 في الصحة، 5 مشاريع فى كل من قطاع الكهرباء وقطاع المياه ، ومشروعين لترقية القطيع الولائي ومشروع واحد فى كل من قطاع الطرق وترقية الإقتصاد بولاية القضارف...أما بولاية كسلا فقد تم تنفيذ 42 مشروعاً في قطاع المياه، 63 في قطاع التعليم ، 17 في الصحة ، 5 مشروعات في كل من قطاع تزكية المجتمع وترقية الإقتصاد" أو من نوع "خصص مبلغ 43 مليون دولار من القرض الصيني التفضيلي لحكومة السودان لتنفيذ 12 مشروعاً نوعياً بالتساوي بين الولايات الثلاث" هذا كشف حساب وقائمة منصرفات وإحصائية لا قيمة لها، البتة، في غياب السبر إلى الجوهر وقراءة المردود.
***
يشارك في الحكومة الحالية عدد من أبناء شرق السودان وفيما عدا موقع المهندس ابراهيم محمود حامد ، وزير الداخلية ومنسوب الحزب الحاكم، فإن الآخرين لا يرجى منهم بكل أسف لأسباب بعضها متعلق بهم (هم انفسهم ومن سيخلفونهم من بعدهم) وبقدراتهم الخاصة ومساحات الحركة المتاحة لهم، وبعضها متعلق بذهنية الخرطوم وطريقة التعامل مع شرق السودان. الخرطوم تتعامل مع شرق السودان بمنطق الإسكات وقد اثبتت هذه السياسة فعاليتها. يرفع شخص ما صوته دفاعاً عن أهله في موضوع معين، فيتم تجاهل الموضوع الذي أثاره لكن يتم تسكينه في وظيفة مؤقتة ! ولأن أهل الشرق فقراء وبؤساء وجهلة ومن طينة لدنة فإن الصوت العالي يخفت و الموضوع الأساسي يضيع. ليست هناك أمثلة فكل النماذج أمثلة.
***
الأستاذ عبدالحفيظ مريود هو أحد أفضل كتاب الأعمدة الصحفية في السودان، وهذه ليست قراءة نقدية لأعمدته أوإعلان للإتفاق معه بقدر ما هي تحية له. لغته رفيعة محكمة في الغالب وأفكاره ذات عمق خاص وفرادة. هو يعرف رأيي هذا وقد أبلغته به في رسالة خاصة. يوم 1/7/2010، كتب الأستاذ مريود منبهاً إلى الظلم الواقع على دارفور فطالب بالنظر ( الى أروقة وزارة الخارجية، أو كشوفات بعثاتها ليحدد كم من أبناء دارفور الأكفاء يتدرجون في سلالمها صعداً الى درجة سفير. أو إن شاء ليتفحص كشوفات وزارة الدفاع ، الداخلين الى الكلية الحربية، الشرطة، الأمن والمخابرات، البنوك، الشركات والمؤسسات القومية، هذا قبل أن ينظر في المرعى والكلأ ومسارات الرحل). اللهم زد أهل دارفور ووسع لهم مقامات السلطان بما كسبت (أياديهم القوية) وأصواتهم العالية، لكني أقول إن هذا لا يجدي بكل أسف لأن الخرطوم ستأتي بمنسوبيها في دارفور مثلما ستأتي بمنسوبيها من شرق السودان وجنوبه. لن يصعب على الحكومة المركزية أن تأتي بساسة يرعون مصالحها بالخصم على مصالح أهلهم في الأقاليم وقد جربت هذا من قبل ونجحت فيه . خسر البجا نصيبهم المستحق ضمن فكرة المحاصصة العرقية والجهوية فما كسبوا شيئاً. حصل بعضهم على وظائف وهمية وقد أبلغتني مجموعة من الشباب أنهم قد تم تسكينهم في وظيفة ضباط شرطة متقاعدين (دون رواتب تقاعدية) وأنهم منحوا منح بطاقات تفيد بذلك. قلت لهم يا لبؤس من تحدثوا باسمكم لقد اشتروا الترام ثم باعوكم إياه. لا حول ولا قوة إلا بالله : تخيل إن الحكومة عرضت على خليل ابراهيم منصب نائب رئيس جمهورية سابق، وعلى جيشه رتب ضباط شرطة بالمعاش، ترى كيف سيكون رده؟
ليست هناك مقارنة لكن من يريد المقارنة فليقرأ الجملة التالية:
قدم الحزب الحاكم أو الحكومة (لا فرق) مبلغ ستين مليون دولار أمريكي للزعيم الراحل د. جون قرنق بغرض تيسير عودة قادته ومنسوبي حركته إلى السودان بعد توقيع اتفاق السلام. في سياق آخر قدم الحزب الحاكم مبلغ ثلاثين ألف دولار فقط لزعيمين كبيرين من زعماء مؤتمر البجا أخذاها صاغرين. السعر مبني على نوع الحساء وعلى طريقة التقديم أيضاً!
***
قبل أكثر من 15 عاماً جاءني بمكتبي في جمعية الهلال الأحمر السوداني وزير سابق كان ملء السمع والبصر، وهو يحمل تصديقاً بمكرمة من مواد الإغاثة المخصصة لضحايا المجاعة والفقراء. بعد سنوات من الوزارة كان فقيراً يرفد خبز أهله بدقيق الإغاثة. من شرفة تلك الوظيفة رأيت مسئولين سابقين كثر كنت أتحسر على حالهم. في مكان مختلف وردتني قصة وزير آخر كان يطلب أن يتم الإتصال به دائماً في المساء فقط ، ثم علمت أنه كان يقتسم الهاتف النقال الوحيد مع إبنه، هو بالليل والإبن في النهار. ربما كان أولئك من النزاهة بحيث خرجوا من مكاتب السلطة فقراء دون أموال أو ربما أنفقوها ثم كانت عليهم حسرة ثم غلبوا، إذا صح اقتباسنا عن الآية (36) من سورة الأنفال.
على ممثلي البجا الحاليين في السلطة أن يتأملوا بإمعان في سيرة من سبقهم. وزير ملء السمع والبصر لسنوات ثم فقير مستحق للصدقة، هنا تبرز الحاجة للإجابة عن السؤال: ماذا قدمت لأهلك؟ رحم الله الدكتور أوهاج محمد موسى وزير الصحة في عهد الديمقراطية الثالثة، لقد كان يمتلك عشرات الأجوبة على مثل هذا السؤال.
***
الحل الأمثل الآن بالنسبة للبجا هو أن يلغوا هوية منطقتهم التي تعيقهم عن الحصول على نصيب عادل في السلطة وإدارة الدولة وأن ينتسبوا لهوية أخرى يقوم أبناؤها بخدمتهم بعد أن تعثر قيام أبنائهم بخدمتهم. هذه فكرة أراها اليوم تطبق في الخرطوم. أنشأ البعض جماعة باسم ملتقى أبناء الشرق برئاسة المهندس السعيد عثمان محجوب (شايقي من أبناء نوري). صحيح إن المهندس السعيد نشأ بكسلا، وصحيح إن لعائلته حضور في مشهد شرق السودان، لكن أما وجد أبناء الشرق واحداً ليس لديه خيار انتماء آخر ليترأس ملتقاهم هذا بالأصالة؟
هذا الملتقى هو آلية غير سياسية لتحقيق أهداف سياسية.
وهذا قد يقود إلى سؤال هو : إذن أين هي الآليات السياسية؟ والإجابة هي إن جبهة الشرق انقسمت على خطوط عرقية إلى: مؤتمر بجا لقبائل البداوييت، وحزب الشرق الديمقراطي لقبائل البني عامر والحباب، وحزب الأسود الحرة لقبائل الرشايدة العربية. انشطرت هذه الفصائل بشكل أكثر وأصغر فصارت لنا أحزاب قبلية باسماء حضرية. هكذا تحولت الأحزاب السياسية من كونها أطر حديثة أوسع من القبيلة إلى أطر أصغر من القبائل نفسها، وبدأت تسهم بشكل خطير في انشطار القبائل التي خلق الباريء الناس عليها ليتعارفوا إن أكرمهم عند الله أتقاهم. في هذا العهد صار للبداوييت مؤتمر بجا لبعض قبائل الأمرأر بزعامة شيبة ضرار ومؤتمري بجا آخرين بزعامة موسى محمد أحمد وعبدالله كنة، وصار للبني العامر والحباب حزبين هما حزب الشرق الديمقراطي وحزب التواصل (تحت التأسيس). هناك حزب الرحمان (غير مسجل) وهناك أحزاب سرية تحن إلى ماض لن يعود وهناك أحزاب أخرى كثيرة خرجت من بطون ما ذكرنا لكنها فقط لا تستحق الذكر.
لقد أضر تسييس القبيلة بالأطر الإجتماعية القائمة ولكنه أضر أيضاً بالسياسة وبمصالح الخلق ممن لا يملكون القدرة أو لعلهم لا يرغبون في إنشاء أحزاب سياسية. ما يثير الإهتمام هو إن كل شظايا الأحزاب الشرق –سودانية، والتي تعيش حالة من الإحتراب البيني، هي على وئام كامل مع الحكومة ومع حزب المؤتمر الوطني بالتحديد وكان أحرى بقادتها أن يدخلوا زرافات ووحداناً إلى حزب المؤتمر الوطني علناً من بابه لكنهم لا يرغبون في ذلك والسبب واضح. هم لا يرغبون في التنافس داخل صفوف المؤتمر الوطني الكبير حيث المائدة الضخمة والأصابع القوية، وإنما يرغبون في أكل ما تبقى من فتات جمجمة حسين خليفة، التى انفجرت بطلقة واحدة كانت موضوعة على المساق المنفرد. هل تذكرون بداية المقال؟ استغفر الله العظيم.
* العنوان مقطع من قصيدة الراحل محمود درويش: عابرون في كلام عابر.
( عن الرأي العام 8/7/2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق